Pressroom

إقتراح قانون الشراء العام، خطوة أساس نحو الإصالح والحداثة

معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي – مجلة الأمن العام – عدد 91 – نيسان 2021

يقول الكاتب الروائي اندريه موروا ان للحكومات عمر مؤسساتها المالية تماماً، كما للاشخاص الطبيعيين عمر شرايينهم. في لبنان، تشيخ المؤسسات المالية ونادراً ما يتجرأ احد على دخول البيت المهمل. لذلك كان لا بد لفريق معظمه من السيدات ان ينفض الغبار عن بيت من بيوت المال كان منسياً، لأنه بيت بأموال كثيرة.
من المعروف ان الحكومات هي الشاري الأكبر في السوق. تلجأ الى تلبية حاجاتها من الأشغال واللوازم والخدمات، من طريق صفقات تعقدها مع الموردين، وهي بذلك تنفق اموال المكلفين او تعتمد على الهبات والقروض الاكبر في السوق. تلجأ الى تلبية حاجاتها من الاشغال واللوازم والخدمات، من طريق صفقات تعقدها مع الموردين، وهي بذلك تنفق اموال المكلفين او تعتمد على الهبات والقروض.
في دول العالم، يصل حجم الشراء الى 25 و 30 % من الانفاق العام. اما في لبنان، فيشكل 20 % من النفقات العامة على المستوى المركزي، اي ما يوازي 3،4 مليارات دولار من دون احتساب ما تنفقه البلديات واتحاداتها والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة والهيئات (بحسب تقديرات معهد باسل فليحان للفترة 2010 – 2020).
نحن اذا امام سوق كبيرة وفرص للاعمال يمكن ان تكون اما متاحة للبعض او للجميع، بحسب تنافسية قواعد الشراء وشفافيتها. فالى اي مدى هذه القواعد هي فعليا ابواب مفتوحة للتنافسية والشفافية والمساءلة؟ ولماذا اليوم يشدد الجميع، سواء اكان المجتمع المدني المحلي او المجتمع الدولي، على اهمية اصلاح الشراء العام؟ وماذا يحمل اقتراح القانون الذي اعده معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وتدرسه اليوم اللجنة النيابية الفرعية برئاسة النائب ياسين جابر؟
منظومة الشراء العام في لبنان ذات جودة متدنية مقارنة بمثيلاتها في بلدان المنطقة العربية ) 1(. يعود ذلك الى تقادم الاطار التشريعي وتبعثره وعدم مواءمته مع متطلبات المعايير الدولية من شفافية ومساءلة وتنافسية.
من المفيد التذكير بأن ما من نص قانوني موحد للشراء العام في لبنان، على عكس كل دول العالم التي سبقتنا بما في ذلك الدول المجاورة، فلا يوجد اي قانون تطبقه الزاميا كل الجهات الشارية التي تنفق مالا عاما.
الاستثناءات كثيرة، ومعظم الجهات الشارية تطبق احكاما خاصة بها، وطلب الموافقات على اجراء الشراء بالتراضي تحول الى امر شائع له تبعات كارثية على ادارة المال العام وزيادة المخاطر المالية وتدهور جودة البنى التحتية والخدمات والاستثمار، وطبعا تفاقم الفساد وتضارب المصالح وهدر المال العام. محاولات كثيرة وفرص ضائعة على مدى حوالى 19 عاما، اصبح لبنان بسببها متأخرا عن غيره من البلدان، بما فيها البلدان العربية التي رغم تحولات الربيع العربي نجحت في تحديث الشراء العام، وصار البعض منها مثل تونس والمغرب يعتمد الشراء الالكتروني، ويتحضر البعض الاخر لاعتماده الزاميا كمصر وفلسطين والاردن.
ان اصلاح الشراء العام اذا ما جاء متوافقا مع المعايير الدولية، يرفع مستوى الثقة ويستقطب الاستثمار والتمويل الخارجي الذي يحتاجه لبنان وينعكس ايجابا على نوعية الخدمات للمواطنين.
المسح الدولي لمنظومة الشراء العام (MAPS) الذي شارك فيه الامن العام من ضمن لجنة
استشارية وطنية مؤلفة من 18 ممثلا عن 15 مؤسسة رسمية، اشار الى ان المنظومة متهالكة على كل المستويات، وتعاني تداخل الصلاحيات بين المؤسسات المعنية.
النتائج جاءت اسوأ من المتوقع. فمن اصل 210 معايير جرى تقويم المنظومة على اساسها، سجل لبنان تطابقا كليا في 11 معيارا فقط، مقابل 120 معيارا غير مطابق و 71 معيارا مطابقا تطابقا جزئيا.
الى هذه الثغر، ب يّ المسح نقصا في اليات الشكاوى والاعتراض. كذلك اشار الى عدم وجود معايير ووثائق موحدة، واللجوء المفرط الى الشراء بالتراضي. ولاحظ ايضا التداخل في ادوار المؤسسات المعنية والنقص في القدرات المؤسساتية والبنية التحتية التكنولوجية، واللجوء الى استثناءات تتناقض مع القوانين والانظمة المرعية الاجراء والمبادئ العامة ذات الصلة، وتفسيرات متعددة تزيد من مخاطر الممارسات الانتقائية والفساد، وتزيد الكلفة على المالية العامة وتؤثر سلبا على الرقابة.
الاحكام اللبنانية في مجملها، لا تعتمد معايير واضحة تعكس التوجهات الدولية لجهة فتح مجال المنافسة امام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحقيق اهداف التنمية المستدامة خصوصا البيئية، واحترام معايير النزاهة والشفافية من قبل الجهة الشارية ومن قبل القطاع الخاص، والزامية
وجود جهاز بشري متخصص قادر على ممارسة وظيفته باعلى مستويات من المهنية والفعالية والنزاهة.
في المحصلة، دلت نتائج المسح بالاجمال على اهمية العودة الى الانتظام المالي بما يراعي القوانين والاعراف الدولية، وهذا يتطلب عملا طويلا وعميقا وممنهجا يطاول الاركان الاربعة للمنظومة:
– الاطار القانوني والتنظيمي والسياساتي.
– الاطار المؤسسي والقدرة الادارية.
– عمليات الشراء وممارسات السوق.
– المساءلة والنزاهة والشفافية
من غير الممكن لاي انفاق استثماري ان يحقق اهدافه الاقتصادية او يستقطب الممولين والمشاريع ذات القيمة المضافة والمحفزة للسوق والابداع، في ظل منظومة متداعية كهذه. من الناحية الماكرو اقتصادية، لبنان اليوم وعلى المدى المتوسط، امام اوضاع مالية واقتصادية دقيقة تتطلب ادارة مالية متكاملة مترابطة تخضع لضوابط صارمة، خصوصا لجهة استشراف عمليات الموازنة والخزينة وادارتها. من المهم ان ترتبط عمليات الشراء العام ارتباطا عضويا بتخطيط الموازنات على المديين المتوسط والبعيد، بما يسمح بادارة سليمة للسيولة في الخزينة، وتأمين التزامات الدولة المالية بحسب اولوية استحقاقاتها، وتأمين الالتزامات المالية الناتجة من عمليات تنفيذ العقود.
حول العالم، تقع سياسة الشراء العام في صلب ادارة المال العام، وتتحكم بها معايير دولية وتشريعات وطنية، مثلها مثل معظم المواضيع المالية كالمحاسبة والمراجعة وغيرها. في ظل شح الموارد والتحديات المرتبطة بالازمات الصحية والمالية وتراجع الواردات لاسيما الضريبية، يمكن اعتبار الشراء “منجم ذهب” لتحقيق قيمة افضل من انفاق اموال المكلفين بالضرائب وتحقيق النهوض والتنمية المستدامة.
اصلاح الشراء العام اذا ما جاء متوافقا مع المعايير الدولية، يمكن ان يكون فرصة لتحقيق وفر سنوي بقيمة 800 مليون دولار على الاقل، وتخطيط افضل للانفاق العام، لان كل قرش ينفق في غير محله هو قرش ناقص في مكان آخر، وهو فرصة ضائعة في ظل وضع اقتصادي مترد وحرج. فهامش الانفاق الاستثماري للدولة على المشاريع التنموية الحيوية ضيق جدا، ولا يتعدى 2% فقط من الموازنة العامة (لعام 2020)، وهو يتقلص اكثر فاكثر ما يؤثر سلبا على تنافسية الاقتصاد وتصنيفات لبنان الدولية.
في لبنان، اصلاح الشراء العام هو شرط من شروط تحقيق التصحيح المالي واستعادة النمو، اذ لا يمكن في ظل اوضاع مالية واقتصادية دقيقة كالتي يمر فيها لبنان اليوم وعلى المدى المتوسط، الا ان تكون الادارة المالية متكاملة مترابطة.
تغلب النظرة القانونية الصرفة في لبنان
على المنطق الاقتصادي والتنموي الذي يحكم موضوع الشراء العام في العالم. فالشراء يعتبر رافعة للتنمية الاقتصادية وعامل ثقة لجذب الاستثمارات، وتحقيق النمو المستدام من خلال مشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على نحو عادل وشفاف في العقود الحكومية، واعتماد معايير الاستدامة، اي تلك الصديقة للبيئة وتلك التي تشجع التنمية الاقتصادية )دعم المشاركة الاقتصادية للنساء، الخ (وتراعي المسؤولية الاجتماعية )تجنب عمالة الاطفال، التأمين الالزامي للعمال ضد حوادث العمل، الخ). ان تغيير هذه النظرة لهو من الامور الاساسية لان بلدنا في تراجع مستمر على مؤشرات التنافسية الاقتصادية (من المرتبة 80 في عام 2018 الى المرتبة 88 في عام 2019 من اصل 141)، وكذلك في سهولة الاعمال (تراجع الى المرتبة 143 من اصل 190 في العام 2020). ومن المتوقع ان يستمر هذا التراجع بسبب الازمة المالية الحادة التي يعيشها لبنان وغياب الافق للخروج من النفق المظلم.
لهذا المعطى اهمية كبيرة في اي استراتيجيا تقصد تطوير الاقتصاد اللبناني وتنافسيته حيث تشكل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بين 93 الى 95 % من اجمالي مؤسسات القطاع الخاص، وتوظف %51 من اليد العاملة، لكنها تبقى غير قادرة على ولوج فرص المشاركة بفاعلية
في العقود الحكومية لاسباب مختلفة اهمها: عدم قدرتها وجهوزها للمشاركة (%88 من الحالات)، والتأخر في الدفع من الجهة الشارية (75 %)، وعدم الولوج الى المعلومات حول الصفقات وشروط المشاركة فيها والصعوبة في تشكيل تكتلات (%63).
يمكن ان يحد اصلاح الشراء العام من المحاباة. وقد اكدت دراسة صدرت في تشرين الاول 2020 (جمال حيدر واسحق ديوان)، ان ارتباط الشركات بمصالح غير تنافسية (مثلا الشركات المرتبطة بالمصالح السياسية) يخفض القدرة على توفير فرص العمل بنسبة 9.4 % في قطاع معين ويحد من قدرة المؤسسات الاخرى على النمو والتطور والابتكار وخلق فرص عمل.
هذه المعطيات وغيرها الواردة في التقارير الدولية حول تنافسية اقتصاد لبنان وتحديات النمو، تؤكد ان تحديث الشراء العام هو اصلاح اساس للحد من الاحتكار والسيطرة السياسية على السوق، وتعزيز الشفافية والمساءلة.
يشكل الشراء العام احد ابرز الاصلاحات الهيكلية الضرورية لتعزيز الحوكمة المالية ودعم جهود مكافحة الفساد، اذ ان 57 % من المعاملات الحكومية المعرضة للفساد مرتبطة بشكل او باخر بمنظومة الشراء العام.
يحتل لبنان المرتبة 149 / 180 عالميا في مؤشر مدركات الفساد لعام 2020 مسجلا تراجعا من 3 نقاط، فيما تبلغ كلفة الفساد مليارات الدولارات سنويا وتعيق المنافسة. ومن المعروف عالميا ان الفساد والجودة المتدنية للبنى التحتية هما من العوامل الاكثر تأثيرا في هروب الاستثمارات وتحويلها الى اقتصادات اخرى اكثر جاذبية وتنافسية.
من ناحية اخرى، لا يقتصر الشراء العام الفعال والجيد على تفعيل المنافسة وتوفير فرص اعمال للشركات، بل هو سياق تحفيزي وعملي لتحقيق التنمية المستدامة بابعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وبالتالي الالتزام باهداف خطة 2030 التي اقرتها الامم المتحدة عام 2015.
ختاما، لا بد من التشديد على ان اصلاح منظومة الشراء العام لا يكفي وحده بل هو وثيق الارتباط باصلاح مجموعة القوانين المالية، ومنها قانون المحاسبة العمومية وقانون جديد للموازنة وهذه مسؤولية وزارة المال. هو مرتبط ايضا بدراسة ووضع خيارات مؤسساتية جديدة
تحتم تعديل مجموعة من القوانين ذات الصلة، منها قانون تنظيم التفتيش المركزي وادارة المناقصات (هيئة ناظمة) وقانون تنظيم ديوان المحاسبة وقانون الموجبات والعقود وقانون العقوبات وغيرها.