Pressroom

قراءة في تداعيات فيروس كورونا على لبنان

لمياء المبيّض بساط

من الواضح أن لبنان يتخبط حاليًا في أزمة اقتصادية خطيرة بدأت قبل تفشّي جائحة كورونا. وجاءت هذه الأزمة لتُفاقم الوضع مع الصعوبات والتحديات القائمة بالفعل التي تواجهها الحكومة اللبنانية والشعب اللبناني. في العالم ستكون هناك تداعيات كثيرة بسبب هذا الفيروس ما يستوجب اتباع سياسات وإجراءات تحد من ضررها. نبدأ من لبنان ثم نتطرق إلى السياسات والإجراءات العالمية.


من الناحية الاقتصادية:

بدأت الأزمة المالية والاقتصادية تنعكس على نوعية حياة اللبنانيين، فاقمتها أزمة وباء «كورونا» والتعطيل الذي نجم عنه. فالانكماش الحاصل في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ١٢٪ بحسب تقديرات وزارة المالية من المتوقّع أن يتواصل في السنوات الثلاث القادمة ليصل إلى نسبة تراكمية قد تتخطى ٣٠٪. ارتفاع الأسعار سوف يُفتت القدرة المعيشيّة للمقيمين ويوسّع بشكل متسارع نسب وجغرافية الفقر التي تصيب نصف إجمالي عدد السكان فيما نسبة من يعيشون تحت خط الفقر المُدقع تتوسع بوتيرة متسارعة (٢٢ في المئة من الإجمالي نفسه). عدد كبير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتي تشكّل أكثر من ٩٠ في المئة من المؤسسات والتي كانت أساسًا تواجه صعوبة في الصمود وتتكل على مبيعاتها في السوق للحصول على السيولة المفقودة في المصارف، مهدّد بالإفلاس أو بالإقفال. الزيادة القياسية في نسبة البطالة التي تعدّت نسبة الـ ٣٦ في المئة (للعمالة النظاميّة) تُنذر بالارتفاع مع إقفال المرافق التجارية والسياحية وبعض الصناعات. ومن المتوقّع أن تعاني الطبقة الوسطى بشكل كبير من هذه الأزمة وانعكاساتها.

توافر العملات الصعبة لحاجات الاستيراد:

تترافق الأزمة الاقتصادية في لبنان مع مشكلة توافر العملات الصعبة للاستيراد وخصوصًا ما يتعلق باستيراد المعدات واللوازم الطبية إذ يستورد لبنان في الواقع ١٠٠٪ من معداته الطبية. وفي ظل نقص السيولة بالدولار الأميركي، لا تستطيع الحكومة شراء ما يكفي من المعدات واللوازم لمعالجة حالات المرض في حال توسع تفشيه، ما قد يتسبب بعبء على المستشفيات والمواطنين (بحسب منظمة رصد حقوق الإنسان، ٢٠٢٠). من جهة أخرى يتأثر لبنان كما العديد من الدول الأخرى بالتأخير الحاصل في سلاسل التوريد نظرًا إلى أنّ حصة مهمة جدًا من إجمالي وارداته إما مستوردة من الصين أو تايوان، وهما منطقتان تضررتا بشدة من تفشي فيروس كورونا. لكن الانقطاع في سلاسل التوريد الطبية (وسلاسل التوريد الأخرى) أظهر فرصًا للتعرّف على القدرات الكامنة للصناعات المحلية التي يمكن تطويرها للتخفيف من أثر الاضطراب والانكماش الاقتصادي.

الإنفاق على الصحة:

تفيد التجربة العالمية مع أوبئة سابقة، مثل الإيبولا، أنّ السرعة في تأمين التمويل الميسّر ضرورية لاحتواء انتشار المرض. في لبنان، تم تخصيص ٦٨٦ مليار ليرة لبنانية لموازنة وزارة الصحّة العامة عام ٢٠٢٠. لكن دراسة لمعهد باسل فليحان المالي والاقتصادي قدّرت الكلفة الإضافية لعلاج المصابين بفيروس كورونا على مدى ٦ أشهر – بحسب معدل الانتشار الحالي – بنحو ٤٣ مليون دولار ليرة لبنانية. وفي حالة تفشي الفيروس بشكل كبير، يمكن أن تصل الكلفة الإضافية إلى ٦٥ مليون دولار أميركي. من شأن هذا الأمر أن يفاقم من حدّة الأزمة المالية لأنّ الحيّز المالي ضيّق أصلًا بسبب العجز المالي المتراكم والذي بلغ في العام ٢٠١٩ ١١.٣٪، (علمًا أنّ المعايير الدولية لا توصي بتجاوز حدّ الـ ٦٪). من ناحية أخرى، باتت قدرة لبنان على الحصول على تمويل خارجي محدودة جدًا علمًا أنّ نسب الدين تخطّت ١٧٠٪ في حين أنّ المعايير العالمية لا تنصح بتخطي ٨٠٪ من الناتج المحلي. هذا الواقع يزيد في المديَين المتوسط والبعيد من إجهاد قدرتنا على معالجة مجموعة الأزمات الصحية الحادة بشكل ملائم.

من الناحية الاجتماعية:

القطاعات المتضررة، أي من يمارسون الأعمال الحرة والأعمال غير الرسمية، تأثروا بالوباء بشكل لا يمكن إنكاره لأنّ عملهم يعتمد على نشاطهم اليومي وحصادهم. بعبارة أخرى، هذه الفئات الاجتماعية الضعيفة ستواجه صعوبات مالية كبيرة وأعباء ضخمة إذا لم تمارس عملها. اللبنانيون يواجهون حاليًا «معضلة تحديد الضرر الأقل» من أجل ضمان القدرة على البقاء خلال الأزمة خصوصًا أنّ نطاق التغطية لأنظمة الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر فقرًا (شطر الـ٢٠٪ من السكان الأكثر فقرًا) لا تتعدّى ٢٦٪ (بحسب تقديرات البنك الدولي) في حين أنّ بلدانًا مثل الأردن تغطي حتى ٨٥٪. وتنبّهنا نتائج مسح الأسر لعام ٢٠١٨ الذي أصدرته مؤخرًا إدارة الاحصاء المركزي، أنّ ٥٨.٧٪ من الأسر تعتمد على الأجور الشهريّة أو الاسبوعيّة أو اليوميّة فيما تعتمد ٩.٥٪ من الأسر في معيشتها على معاشات التقاعد. أي أنّ مصادر دخل ٦٨.٢٪ من الأسر لا تتسم بالمرونة إزاء تغيرات سعر الصرف والتضخّم.

وافقت وزارة الشؤون الاجتماعية، بالتعاون مع وزارات الصناعة والزراعة والدفاع والداخلية والعمل والمالية والاقتصاد والإعلام، على وضع خطة – يتم تنفيذها بالتنسيق مع البلديات ورؤساء البلديات ومراكز الشؤون الاجتماعية والجيش – لتوزيع سلة تضامن من المواد الغذائية والمطهرات للعائلات المتضررة اقتصاديًا وماليًا نتيجة لـكوفيد-١٩ ولتقديم المساعدة المالية أيضًا. ولكن كيف السبيل لإيجاد تمويل مستدام لهذه المبادرات إذا ما طالت فترة الحجر وزادت وتيرة الانكماش الاقتصادي؟
من ناحية أخرى، يقدم البرنامج الوطني لمكافحة الفقر الدعم لحوالى ٤٥٠٠٠ أسرة (ما يقارب ٢٤٠.٠٠٠ مستفيد فردي). فهل ستتم توسعة هذا البرنامج ليشمل نصف عدد السكان كما توصي به المؤسسات الدوليّة؟
في مطلق الأحوال وبالنظر إلى حجم المشكلة، لم يعد بالرنامج الوطني لمكافحة الفقر كافيًا، والمطلوب تحويله، اليوم قبل الغدّ، إلى برنامج يهدف لحماية المجتمع على المديين المتوسط والبعيد من منطلقات ثلاث: التربية والصحّة والعمالة. فازدياد الفقر سيؤدي لزيادة التسرّب المدرسي، وتهالُك مَخزون المَعارِف والمَهارات الذي لَطالَما ميَّزَ الرأسمال البشري في لبنان. بعض الدراسات ما قبل الأزمة أنذرتنا بأنّ نسبة ٣٥٪ فقط من الذكور دون ١٨ عامًا في الأسر الأكثر فقرًا لا يزالون على مقاعد الدراسة في مقابل ٩٢ في المئة منهم في الأسر ذات الدخل الأعلى. لهذا السبب لا بد أن يتضمّن أيّ برنامج آليات وموارد لدعم بقاء الأطفال في مسارات التعليم. من جهة أخرى من المتوقّع أن تتراجع قدرات الطبقات الوسطى على إتاحة فرص التعليم العالي لأولادها والتبادل الاكاديمي والمعرفي مع الخارج مما سيسبب على المدى البعيد تراجعًا في كفايات اللبنانيين أو ما نتغنى به من رأسمال معرفي Capital Competence. لا بدّ إذًا من العمل على استقطاب الدعم وتوسيع البرامج التي تؤمن فرص التعلّم والتبادل الأكاديمي مع الخارج.
البُعد الصحي لبرنامج الحماية ضروري أيضا لأنّ ارتفاع معدلات الفقر والبطالة ستخفّض القدرة على تحمّل تكاليف الرعاية الصحية للناس. في الأصل بدأ انخفاض الطلب على الخدمات الصحية والاستشفاء واستشارات الأطباء منذ ما قبل الأزمة وباستثناء الحالات العاجلة يؤجل المرضى الرعاية ما يرتِّب آثارًا كبيرة على الحالة الصحية للناس في المستقبل. ولا شك في أن هذا الواقِع سيزيد من تردّي الصحة العقلية والاكتئاب والقلق على الحياة والمصير. لذلك فمن الضروري أن يولى هذا البعد اهتمامًا كبيرًا.

في وسائل الاستجابة:

التحديات المباشرة اليوم تكمن في تقديم الرعاية الصحيّة ومواجهة الصعوبات اللوجستية والماليّة لمعالجة تعقيدات فيروس COVID – 19. هذه الصعوبات استطاعت أن تُخرج إلى العلن أفضل المواهب العلمية والتقنية في البلاد واثبتت حيوية قطاع الصناعة والتكنولوجيا والعلوم للاقتصاد وقدرة اللبنانيين على تثمير الكمّ الهائل من العلوم والخبرات المكتسبة داخل لبنان وخارجه في انتاج حلول مبدعة قد تساهم، اذا ما كُتب لها النجاح، في مجهود عالمي جبّار لمواجهة تحدٍ غير مسبوق يطال البشريّة جمعاء.
مبادرات كثيرة للمجتمع المدني مثل Jobs For Lebanon وبيتي – بيتك وأشغالي كما المبادرات لدعم الأسر الفقيرة كتلك التي يقودها بيت البركة وبنك الغذاء وغيرهم العديد من المؤسسات برزت وتوسعت. في بلادنا مُجتمعٌ مبادر منتج لديه قدرات كامنة قادرة أن تواكب وتنافس وتساهم في مجتمع المعرفة والإنتاج وتصل إلى العالميّة كما فعلنا يومًا في بداية ستينيات القرن.
من جهة أخرى، كانت استجابة الحكومة لجائحة كورونا سريعة وتم وضع موضع التنفيذ مجموعة من التدابير للحدَ من انتشار الفيروس شملت التعبئة العامة مع الإغلاق الكامل لجميع المؤسسات التعليمية والقطاع الخاص والمؤسسات العامة وتعليق الرحلات الجوية وانشاء غرفة عمليات وطنيّة لإدارة الكوارث تميزت بفعّاليتها، ورفع جهوزيّة المستشفيات والمختبرات العامة والخاصة، وتنظيم عودة الوافدين وتتبع أوضاعهم الصحيّة، وتوسيع رقعة الفحوصات الصحيّة وغيرها من التدابير.
نوعان من سياسات الاستجابة الماليّة تم وضعها اعتبارًا من ٢٥ آذار ٢٠٢٠: الأولى، مالية fiscal والثانية، نقدية / مالية كلية Monetary and macro – financial ومنها تمديد جميع المهل المتعلقة بدفع الضرائب والرسوم، وإنشاء صندوق وطني للتضامن يقبل التبرعات العينية والنقدية.، وتعليق المهل القانونية والقضائية والعقدية، وغيرها. من جهته، أطلق مصرف لبنان بالتعاون مع مبادرة LIFE برنامج اوكسيجين بقيمة ٧٥٠ مليون د. أ. فساهم بتوفير تسهيلات لمستوردي المواد الأولية الضرورية لمكافحة كورونا ولحاجات الصناعة.
مجموعة تدابير ايجابية أخرى شملت غرفة عمليات قانونية تسمح بتنظيم طلبات الإفراج عن السجناء بمبادرة من وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين، وخط ساخن للاستجواب بواسطة الانترنت أصبح واقعًا، إضافة إلى تجهيز قصور العدل بالوسائط الالكترونية. وزارة الاقتصاد من جهتها أصدرت التعميم رقم ٤٥٢ بعدم توزيع الأرباح لدى شركات التأمين Scrapping Dividends ووضعت قانونًا جديدًا لحماية المستهلك يمنحها قدرة واسعة لمكافحة الغش وتفعيل حماية المستهلك. وزارة الداخلية والبلديات بالتعاون مع التفتيش المركزي أطلقوا منصّة الكترونيّة للتواصل مع المخاتير والبلديات وإحصاء الفئات الأكثر فقرًا.

الخروج من النفق:

مع تراجع تفشي الفيروس، من الممكن أن تساعد سياسات واعية للاقتصاد الكلي في استعادة الثقة واستعادة الطلب، ولكن قد لا يمكنها تعويض الآثار الناجمة عن الإغلاق القسري وقيود السفر، والهجرة المحتملة لأصحاب المعارف والكفايات.
تحديات الغد القريب هي من النوع المعقّد المتداخل والصعب، ولا بدّ من التحضّر لها من خلال سياسات منسقة وفي جميع القطاعات. ومن شأن الإصلاحات الهيكلية والدعم الخارجي أن يساعدا في المدى الطويل على استعادة النمو وتحسين ثقة المستهلكين والمستثمرين واستعادة الثقة.
يبقى أن المطلوب، وفي القَريب العاجل، توسيع شبكات الأمان الاجتماعي وجعلها أكثر عدالة لتفادي إستمرار الإنزَلاق إلى أسفَل الدّرك وانهيار الأمن الاجتماعي للبلاد مع ما يرتّبه ذلك من أثر على الأمن في البلاد.